لنتفق من البداية، لكُل من يريد أن يتحدث عن الريادة المصرية في الماضي، أقول له أنني لا أنسى ذلك الأمر أبداً ما حييت، مثلما لا ينساه كذلك لا القطريون ولا غيرهم من بقية الأشقاء العرب، فالجميع يعي تماما أننا – أعني المصريين -كنا الرواد في جميع المجالات، ولكن ذلك كان في الماضي، بينما نحن نتحدث الآن عن الحاضر فشكراً لكم، ولِنَدَع الحديث عن الريادة المصرية لوقت آخر وحديث آخر
ولنتفق من البداية مجدداً، لكُل من يريد أن يُذكرني بأن مساحة دولة قطر لا يمكن مقارنتها بمساحة مصر، أقول له أنني أعلم تماماً أن مساحة دولة قطر تزيد بالكاد عن واحد في المائة من مساحة مصر، أي أنها أنها تُمثل تسعة عشر في المائة من مساحة سيناء
ولنتفق مرة أخرى، فلكل من يريد أن يقول أن قطر دولة نفطية وبها أكبر احتياطي للغاز في العالم بينماعدد سكانها لا يتعدى المليون نسمه، أقول له أنني أعرف أن لمصر موارد متعددة لم تنعم بها أية دولة أخرى عبر التاريخ، فمصر تنعم بكل تلك النعم منذ آلاف السنين وحتى الآن، بينما دولة قطر لم تر تلك الثروات النفطية إلا منذ عقود قريبة، فالمقارنة ليست عادلة لأننا كمصريين الأغنى بالفعل، ولهذا حديث آخر
المهم، كفانا من الإتفاقيات الإفتتاحية تلك الآن ولنبدأ في التحدث في صُلب الموضوع، فالمُناسبَة التي نتحدث عنها الآن يعلمها الجميع ألا وهي حصول دولة قطر على شرف تنظيم مسابقة كأس العالم لكرة القدم للعام 2022 متفوقةً بعرضها الذي قدمته عبر ملفها الرائع عن كل المنافسين الآخرين وهم للعلم الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا!
هذا الفوز القطري هو نفسُه ما فشلت فيه مصر منذ عدة سنوات عندما كانت تتصارع مع دولة جنوب افريقيا لنيل شرف تنظيم المسابقة ذاتها في العام 2010 وهو ما نذكره جميعا بحادثة صفر المونديال الشهيرة، حيث نال حينها الملف المصري على درجة صفر، وهو ما أصاب الجميع بالدهشة والصدمة، فقد كان الشعب كله على يقين تام من أن فوزنا بتنظيم المسابقة هو أمر مفروغ منه، ولم لا ونحن الرواد بلا شك؟ إنه الغرور وعدم الإعتراف بالواقع والإرتكان إلى أمجاد الماضي التي لا تُسمن ولا تغني من جوع الآن، كان الحدث مثالا لعدم المعرفة الحقيقية بما كُنا مقدمين عليه، فخرج الملف المصري بعيدا عن الإحترافية والإقناع، مثل كافة الأمور الأخرى التي تُدار في مصر
أعرف أن قطر دولة صغيرة، وأعرف أنها لا تمتلك من المقومات الجغرافية والبشرية ما يُعينها على التوسع بشدة، لكنها مع ذلك اختارت ألا تستسلم لتلك الظروف، وقررت أن يكون لديها مكانا بين الكبار، ولم لا؟ فالعبرة ليست بالكم كما يظن البعض بل بالكيف والكفاءة والجودة. أتذكرون عندما تم اطلاق قناة الجزيرة من قطر؟ لا أناقش الآن أداء قناة الجزيرة ولا توجهاتها، لكنني أشير هنا إلى أن قناة الجزيرة كانت أن أول من قام بمحاكاة ثم منافسة القنوات الإخبارية العالمية كقناة السي إن إن الأمريكية وقناة البي بي سي البريطانية، بينما لم يكن لتليفزيون الريادة المصري تواجد مماثل وحتى حينه، فقناة الجزيرة هي نموذج لما أعنيه عن كيفية البحث عن مكان بين الكبار، والنجاح فيه
ما علاقة قناة الجزيرة بكأس العالم إذاً؟ إنها مجرد مثال فقط لما أعنيه عن كيفية مُناطحة الكبار، فما أريد أن أقولُه هو أن النموذج القطري في مُعالجة الأمور يتسم دائما بالإحترافية الشديدة، وإذا لم يتوفر من يحققون تلك الإحترافية داخل البلاد فإنهم لا يركنون إلى نظام الفهلوة أبدا، بل يعطون الخُبز لخبازُه كما نقول نحن في أمثالنا المصرية، وبناء عليه فأنا لا أخفيكم سراً عندما أقول أنه كان لدي احساس قوي بأن قطر ستفوز بشرف تنظيم هذا المونديال بالفعل، ولمن لا يعلم، فقد كان هناك تجربة مماثلة عندما نظمت قطر دورة الألعاب الأسيوية عام 2006 بنجاح منقطع النظير، حيث أبهرتنا قطر حينها بالتنظيم الفائق الجودة والإحترافية العالية والمستوى المتميز
لا أتحدث هنا عن قطر وما حققته مؤخرا - خلال عقدين فقط من الزمان - من انجازات مرموقة على أصعده عديدة مثل البنية الأساسية والصناعات النفطية والصناعات الثقيلة واستقدام الجامعات والمعاهد الدولية وصناعة المؤتمرات والخطوط الجوية القطرية المتميزة والمطار الرائع، لكنني أدعوكم للتفكير في أمر واحد وهو كيف للملف القطري أن يتفوق على نظيرة الأمريكي أو الياباني أو الكوري أو الأسترالي وجميعها دول عريقة ذات سطوة اقتصادية وخبرة دولية مرموقة؟ ما السر الذي يجعل الملف القطري أكثر احترافية من هؤلاء وأكثر اقناعا بأنها الأجدر بتنظيم حدث كبير كهذا؟ ستجدون أن الإجابة عن هذه الأسئلة هي ذاتها نفس الإجابات التي تُفسر صفر المونديال الشهير ولا عجب
تتبقى نُقطة أخيرة أود أن أتحدث فيها، فحزب أعداء النجاح ومحبي النصف الفارغ من الكوب يتحدثون دوما عن مدى جدوى الإنفاق المالي الضخم على المنشآت الرياضية والملاعب والفنادق؟ وما هي الإستفادة من كل ذلك بعد انتهاء المونديال؟ أقول لهؤلاء باختصار أن تنظيم المونديال مثله مثل أي مشروع اقتصادي له جدوى اقتصادية، فيها حسابات للأرباح والمصروفات، وتلك الأرباح يوجد منها ما هو مباشر كأرباح تذاكر حضور المُباريات والنقل التليفزيوني والفضائي والسياحة وانعاش حركة الطيران والإشغال الفُندقي إلى آخره، وهناك الأرباح الغير مباشرة والتي أحيانا يُمكن تقديرها ماليا كالدعاية المجانية للبلاد، وأحيانا قد لا تُقدر بمال أبدا، حينما تصبح دولة كقطر رائدة في تنظيم حدث عالمي كهذا في منطقتنا العربية، وتُصبح حديث العالم منذ اللحظة الحالية ولسنوات طويلة عديدة. هذا بخلاف أن كل تلك المنشآت سيستفيد منها أجيالا عديدة في المستقبل القريب والبعيد
فبعيدا عن أية أمور جانبية قد تصرف نظرنا عن الحقائق الدامغة وضوء الشمس التي تظهر في وضح النهار، دعوني أُحيي قطر التي لم تحصل على صفر، ولنعمل نحن من الآن على أن نحقق انجازاً مماثلا على الأقل حتى نستعيد ثقتنا في أنفسنا، وحينها سنكون قد بدأنا أول خطوة على طريق إستعادة الريادة من جديد، إذا كنا فعلا نتمنى ذلك
التسميات: زعلان على مصر, فكر